القائمة الرئيسية

الصفحات

"التدرج في تطبيق الأحكام..، خداع للنفس"





كثيرا ما يتم المطالبة باللين قصد "التدرج" فيُقال أريد الاقتناع بالحجاب، أريد الاقتناع بالصلاة، أقنعني بترك الخمر.. وهكذا! 

هذا الكلام لا يزيد إلا من إظهار ضعف النفوس وهوانها، وهوان التشريع فشتان بيننا وبين أنس رضي الله عنه حين قال: « كُنْتُ أسقي أبا عُبيدةَ بنَ الجرَّاحِ وأُبَيَّ بنَ كعبٍ وأبا طلحةَ الأنصاريَّ شرابًا مِن فَضيخٍ فجاءهم آتٍ فقال: إنَّ الخمرَ قد حُرِّمتْ فقال أبو طلحةَ: قُمْ يا أنَسُ إلى هذه الجِرارِ فاكسِرْها قال: فقُمْتُ إلى مِهراسٍ لنا فضرَبْتُها بأسفلِه حتَّى تكسَّرَتْ »

فتأمل سرعة استجابة الصحابة رضوان الله عليهم امتثالا للعمل بأمر الله وتعظيما للنص الشرعي، فبمجرد سماعهم لكلمة "إن الخمر قد حرمت" فإذا بهم يسارعون للتخلص مما لديهم من خمور!

دون نقاش ولا جدال ولا سؤال لماذا وكيف!، و"أقنعني" ولننتظر "التدرج" فقد صار الخمر إدمانا! 

وقارن هذا الموقف بموقف البعض ممن يشربون الدخان فتذكرهم بحرمتها فلا يزال أحدهم يتعلل ولا يستجيب! 

فسبحان الله من هذا التعظيم!، واليوم تجده يجادل وفوق هذا يعترض!، ويُطالبك بالإقناع أو يقول لا أستطيع!

فحين نمعن النظر نجد أن الأمر بالنهي أو الطاعة لم يكن يتوقف مع الصحابة عند حدود التصديق وفقط كما هو حال النساء اليوم أنا أؤمن بأن الحجاب فرض ولكن أريد الاقتناع، كان للصحابة والصحابيات رضوان الله عليهم جميعا بجانب التصديق انصياعا واستجابة وعملا، فكان تلقي الخبر يترجم من فوره مباشرة ودون أدنى تأخر إلى واقع ملموس وفعل محسوس! 

قال تعالى" قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم" 

فتأمل الآية من الواحب المُلازم للتصديق والمحبة هو الاتباع والتطبيق! 

ما نحن فيه بعصر "الجاهلية" يُذكرني بأصحاب موسى عليه السلام لما قال لهم نبيهم ادخلوا الأرض المقدسة قالوا: (يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) 

فسُبحان الله..! 

وفي المُقابل، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا: "والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْك الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه".

فتأمل! 

عن أبي هريرة قال: [لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير}، قال فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق. الصلاة والصيام والجهاد والصدقة وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما قرأها القوم ذلت بها ألسنتهم. فأنزل الله في إثرها: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى. وأنزل الله عز وجل: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) قال: نعم. (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا) قال: نعم (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) قال: نعم (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) قال: نعم.

ولم تكن نساء الصحابة أقل تجاوبا أو أبطأ استجابة لكلام النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال كما في حديث نزول آية الحجاب وسرعة استجابة الصحابيات لأمر الله ورسوله كما في صحيح سنن أبي داود عن أم سلمة قالت: [لما نزلت (يدنين عليهن من جلابيبهن) خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية].، أي أنهن غطين رؤوسهن ووجوههن طاعة لله ورسوله..! 

واليوم ماذا؟، تطالبك باللين والإقناع..! 

فسُبحان من خلق النفوس ورزقها اتباع الحق! 

وفي الصحيح: [كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، فلما نزلت: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}. قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله تعالى يقول في كتابه: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}. وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال: (بخ، ذلك مال رائح، ذلك مال رائح، قد سمعت ما قلت فيها، وأرى أن تجعلها في الأقربين).

قال:أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. 

وعند الكلام عن الاستجابة لابد من ذكر الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن ابن عباس:[أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى خاتما من ذهب في يد رجل. فنزعه فطرحه وقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده" فقيل للرجل، بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك انتفع به. قال: لا والله! لا آخذه أبدا وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

{ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ } 

لا يمكن لأحد أن يتجاوز هذه الآية حين يتدبرها إلا وقد آمن بها ووقف عندها وهاب مخالفتها! 

فمن عظم الله عز وجل طرح هوى نفسه، وسلم بأمر ربه، واتبع كتابه وسنة نبيه، ونبذ ما سواهما! 

وهذا حال السلف وحال أهل الإيمان والتقوى!، عكس حال من في عصرنا قد سلبوا الأدب في تعاملهم مع نصوص الشرع! 

{ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَٱعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ ۚ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ ٱتَّبَعَ هَوَىٰهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ } 

فمن أعرض عن شرع الله ولم يستجب للتسليم والطاعة والانقياد فلا مُعرض عن حجبه غير "هواه"، وإن هذا من أعظم البلاء والضلال الذي يحل بالعبد فيُهمل النصوص الشرعية ركونا لعقله القاصر في التحاكم!، فيجعل حكم عقله أبجل من حكم الله ورسوله! 

فكيف بالصحابة رضوان الله عليهم لو رأوا حالنا ورأوا اشتغال الناس بآرائهم وأفكارهم وقِصر عقولهم وزبالة أذهانهم في التعامل من الكتاب والسنة! 

فالخلاصة أن التدرج في القيام بالطاعة وترك المعصية خداع للنفس فقط { يخادعون الله والذين آمنوا وما يخادعون إلا أنفسهم..} 

فالنفس بين الطاعة والمعصية ولا ثالث بينهما! 

فلا تُخبر عن نفسك بالتصديق ولا بالإيمان، فإن واجب التصديق التطبيق، فإن تركت المعصية اكتسبت طاعة وإن اكتسبت الطاعة اكتسبت ما بعدها.. 

والله المستعان..