القائمة الرئيسية

الصفحات

التغلب على ضعف نفسي اتجاه نِعَم غيري

 



وصلتني استشارة "عندما أرى غيري متزوج ولديه مال وجاه أشعر بالسوء وجرح عميق في نفسي، فصرت أشعر أنني منبوذ من غيري فلا يمكنني الزواج ولا العمل.." 


قبل الرد على نص الاستشارة، أريد التنويه إلى أمر مهم متعلق بالمعاني العظيمة للقرآن الكريم والقواعد المستنيرة التي تسير العبد نحو الفكر الصحيح وتربيه على القيم والنبادئ السليمة التي تزيل كل شوائب البغض والسوء والمقارنة مع الغير..! 


فتخيل معي يا رعاك الله أنه ثمة قوانين في حياتنا اتفق أصحاب الاختصاص على تقنينها وفرضها من أجل تحقيق أكبر قدر من الأمان والراحة والطمأنينة إن سار الناس عليها والتزموها، ومع أنها قوانين بشرية يؤخذ من قولهم ويرد إلا أن الثقة بتلك القوانين لا تتزعزع لأنها وضعت وصيغت من أصحاب الشأن والاختصاص..! 

فما بالك بقوانين وقواعد سنها الخلق عز وجل وهو يعلم ما يلائم حياتنا دون أن يغفل ما يحقق لنا السعادة في أنفسنا..! 


من أهم القواعد التي أريد التأشير علبها في هذا الموضع مستنبطة من قوله تعالى: {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}

فتأمل هذه الكلمات التي تودع في النفس الراحة والطمأنينة، كلمات إذا رُويت بها النفوس عاشت الرضا والقناعة.. 

يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تنظر إلى هؤلاء المترفين وأشباههم ونظائرهم، وما هم فيه من النعم، فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة" (تفسير ابن كثير)

"هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم الذي لم تشغله الدنيا عن مقام العبودية لله فبلغ أمانته وأدى رسالته على أتم وجه، فإنه أحرى بنا أن نقف مطولاً عند هذه الآية ونقتفي أثر الرسول الأكرم ونحذوا حذوه ونحن فينا من عوارض البشر ونقائصهم ما يجعلنا عرضة للتقصير في كل وقت وحين".

فتأمل التعبير الرباني الذي صوره الله عز وجل من النعيم الدنيوي بـ "زهرة الحياة" فاختزل متاع الدنيا في تلك الزهرة وذلك لأنّ الزهرة عمرها قصير وإن طال فلذائذ الحياة الدنيا إلى فناء وزوال، وإن هو إلا نعيم لابتلاء المترفين المنعمين واختبارهم فيه وما هم فاعلون اتجاهه هل هم من الشاكرين أم من الجاحدين،
 {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: "لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ونبتليهم" (تفسير الطبري).


{وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ} فزهرة الحياة الدنيا المتمثلة بهذه النعم التي هي ضرب من ضروب الابتلاء مهما امتدت وطالت فهي إلى زوال ويظل ما عند الله الذي وعد به نبيه ومن تبعه أدوم وأبقى.

"ورزق ربك الذي وعدك أن يرزقكه في الآخرة حتى ترضى وهو ثوابه إياه خير لك مما متعناهم به من زهرة الحياة الدنيا وأبقى وأدوم لأنه لا انقطاع له ولا نفاذ" (تفسير الطبري).


(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي نظر عينيك: ومدّ النظر: تطويله، وأن لا يكاد يرده، استحساناً للمنظور إليه وإعجاباً به، وتمنياً أن يكون له، كما فعل نظارة قارون حين قالوا: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] حتى واجههم أولو العلم والإيمان بـ {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80]".

نهي ربانية وقاعدة جلية عظيمة إن وضعناها نصب أعيننا نظمت علاقاتنا وضبطتها على كافة المستويات إذ تصوّب نظرتنا للأمور فلا تبقى نظرة قاصرة مادية محصورة في حدود متاع هذه الدنيا الزائل.

فمتى ما استشعرت هذه القاعدة وعملت بها، زال السوء من قلبك وزالت شوائب البغض والحسد.. 

الزواج والعمل.. أرزاق تُساق

ترتيب "الوسائل" و"الغايات" من أهم أولويات المسلم..! 
وجب عليك أن تعلم بأن المال والجاه والأمور المادية بشكل عام ليست إلا وسائل تقتضي بها الغايات، واعلم أن الغاية الحقيقية تقتصر على العبادة والطاعة وإقامة هذا الدين بتشريعاته وأحكامه وبموجب قواعده، واجعل من أهم الغايات إعلاء كلمة التوحيد..!

فتأمل قوله عز وجل { المال والبنون زينة الحياة الدنيا..} ثم قال مستكملا { والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا (وخير أملا)} ليس في أمور الدنيا آمال إنما الآمال في الأقوال والأعمال الصالحات..، المال والبنون أمر مشكوك في حصوله، مع قصر مدته أما الأمل في الصالحات، فهو وعد حق صادق من الله، ويحصل منه نفع الدنيا والآخرة.

"التعلق دائما بما عند الله فما عنده لا ينفذ ولا يفنى وأن الرزق لا ينحصر في أموال وغنى، فكم من غني فقير على الحقيقة جاء للدنيا وخرج منها كما جاء دون أن يعمل لدار خلده وبقائه شيئا وكم من فقير بات طاوياً على جوعه غير أن غناه في تعلقه ورجائه بما عند الله".

واعلم أن الزواج والعمل رزق يسوقه الله إليك وإن كان لكل منهما سعي، وأعظم السعي فيهما هو "الدعاء"، فالدعاء والتوكل عبادة {وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا}.

لا تغفل عن الدعاء


ما تعلَّق أحدٌ بالدعاء فخُذِل..! 

حتى لو طال به البلاء وتأخَّرت عنه الإجابة إلاَّ أنَّه يعيشُ في سعادة الدعاء..، لأنَّ الله أكرمُ من أن يفتح عليك في الدعاء ثم يجعلك تتعذَّب في الوقت بين الدعاء وحصول الإجابة وانكشاف البلاء، بل يُكرِمك بين الدعاء وحصول الإجابة بسعادة عبودية الدعاء.

"الدعاء" باب من أهم من أبواب التوكل على الله، فلا تجعله خافيا عليك وأنت في إرادة التغيير وفي سبيل البعد على سوء المنزلة، فاجعل بدايتك محفوفة بدعاء التوفيق والرشاد والصلاح واسأل الله كل هذا فيحدث لك بعد ذلك أمرا.. 

فلَا تتعامَل معَ الدعاء على أنهُ آخر الحلول وأضعفها! 
تعامَل معهُ على أنهُ أول الحلول وسيدها، تعامَل معهُ كأوَّلِ ملجأ تتخذهُ في سائِر أمرك، وفي كُربك وعُسرك وحُزنك.

تعامل معَ الدعاء على أنهُ بوصلة التغيير في حياتك، وصدقني.. متى ما اتَّخذت الدعاء أول الملاجِئ كانَ اللَّه لكَ كافيًا خيرُ ملاذ.

سُئِل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

ما دواء من تَحَكَّمَ فيه الداء، وما الاحتيال فيمن تسلط عليه الخَبال، وما العمل فيمن غلب عليه الكسل، وما الطريق إلى التوفيق، وما الحيلة فيمن سطت عليه الحَيْرة، إنْ قَصَدَ التوجه إلى الله مَنَعَهُ هواه…وإنْ أراد يشتغل لم يطاوعه الفشل ؟.

" فأجاب رحمه الله ونفعنا بعلمه :

دواؤه الالتجاء إلى الله تعالى، ودوام التضرع إلى الله سبحانه والدعاء بأن يتعلم الأدعية المأثورة، ويتوخى الدعاء في مظان الإجابة، مثل آخر الليل، وأوقات الأذان والإقامة، وفي سجوده، وفي أدبار الصلوات ..

ويضم إلى ذلك الاستغفار؛ فإنه من استغفر الله ثم تاب إليه مَتَّعَهُ متاعاً حسناً إلى أجل مسمى .

وليتخذ وِرْداً من الأذكــار طرفي النهار ووقت النوم .

وليصبر على ما يَعْرِضُ له من الموانع والصوارف فإنه لا يلبث أن يؤيده الله بروح منه، ويكتب الإيمان في قلبه .

وليحرص على إكمال الفرائض من الصلوات الخمس بـبـاطـنـه وظاهره فإنها عمود الدين .

وليكن هجيراه : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم؛ فإنه بها تحمل الأثقال وتكابد الأهوال وينال رفيع الأحوال.

ولا يسأم من الدعاء والطلب فإن العبد يستجاب له ما لم يعجل فيقول : قد دعوتُ فلم يستجب لي .

وليعلم أن النصر مع الصبر ، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا؛ ولم ينل أحد شيئاً من جسيم الخير نبي فمن دونه إلا بالصبر .

والحمدلله رب العالمين ..

[ جامع الرسائل ٤٤٦/٧ ]



آخر النصيحة..

اعلم أن من يفرغ نفسه من هموم الدنيا ويجعل همومه همّا واحدا وهو همّ الآخرة يكفيه الله ويجمع له أمره ويجعل غناه في قلبه..! 

 لقوله صلى الله عليه وسلم: "من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة". 

وقف مع قاعدة "لا تمدن عينيك"، قاعدة ربانية كفيلة أن تجتث الشرور من أساسها إن فقهناها والتزمناها لتصبح سلوكا عمليا واقعيا في حياتنا لا مجرد كلمات تتلى بليل وتُنسى بنهار، فتسير حياتنا وفق نظام لا تخترقه الشرور والأحقاد والضغائن.

ونسأل الله التوفيق والسداد والرشاد..