القائمة الرئيسية

الصفحات

القول السديد في تفسير {ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها}

 


قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ 

وجه الاستدلال الأول من الآية: بأنه قد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه أنه فسر قوله: ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ بالوجه والكفين وهو ترجمان القرآن، فدل ذلك على جواز كشف الوجه..

ونوقش من وجوه:

الوجه الأول: أن هذا التفسير قد خالفه تفسير ابن مسعود رضي الله عنه بأن المستثنى من النهي هو زينة الثياب، أي: لا يبدين زينتهن (الباطنة والظاهرة) إلا ما ظهر من الثياب التي يلبسنها، بغير إرادة منهن وقول الصحابي إذا خالفه صحابي آخر تعين الترجيح بينهما بالدليل.

الوجه الثاني: أن التفسير بهذا المعنى فيه إجمال: فيحتمل أنه أراد بذلك الزينة الممنوع إظهارها فيكون بذلك موافقا لتفسير ابن مسعود رضي الله عنه بأن المقصود هو ظاهر الثياب، وما لا يمكن إخفاؤه قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية:«. . . . عن ابن عباس ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ﴾ ، قال: وجهها وكفيها والخاتم، وهذا يحتمل أن يكون تفسيرا للزينة التي نهين عن إبدائها». . ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسيرا ما ظهر منها بالوجه والكفين. والدليل إذا تطرق إليه الاحتمال بطل به الاستدلال.

الوجه الثالث: بأنه قد ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما - في أكثر من موضع - أنه قد فسر قوله تعالى: ﴿يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾ بقوله: أن تلويه المرأة حتى لا يظهر منها إلا عين واحدة تبصر بها، وقال أيضا في هذه الآية: أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب يبدين عينا واحدة " فقد فسر إدناء الجلباب بأنه يشمل تغطية الوجه فلا تبدي منه إلا عينا واحدة. وهذا يقوي الاحتمال الذي ذكره ابن كثير، وإلا كان هذا تناقضا.

الوجه الرابع: أن قول الصحابي: لا يكون حجة إذا خالف قوله صحابي آخر، فيكون الترجيح بين القولين بالدليل، فلو لم يصح عنه سوى القول الذي ذكرتم، فليس قوله حجة تعارض بها دلالة الكتاب والسنة التي دلت دلالة صريحة على وجوب تغطية الوجه، فكيف مع وجود الموافقة بما تقدم؟

الوجه الخامس: بأن الجمع بين التفسيرين ممكن: فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وحقيقة الأمر أن الله جعل الزينة زينتين: زينة ظاهرة، وزينة غير ظاهرة، وجوز لها إبداء زينتها الظاهرة لغير الزوج وذوي المحارم. . فإذا كن مأمورات بالجلباب؛ لئلا يعرفن، وهو ستر الوجه، أو ستر الوجه بالنقاب كان الوجه واليدان من الزينة التي أمرت ألا تظهرها للأجانب، فما بقي يحل للأجانب النظر إلا إلى الثياب الظاهرة فابن مسعود ذكر آخر الأمرين، وابن عباس ذكر أول الأمرين» 

الوجه السادس: أن تفسير ابن مسعود رضي الله عنه أوفق للصواب لما يلي:

أولا: أن الآية تدل على أن هناك زينتين: زينة لا يجوز إبداؤها، وهي قوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾، والزينة الثانية: هي الزينة التي استثناها من النهي بقوله: ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، يعني إلا الزينة التي تظهر من الزينة الأولى. فإذا جعلنا الوجه هو المستثنى، مع أنه هو أصل الزينة، فما هي الزينة المستثنى منها؟

فإن قيل: هي الزينة المكتسبة، كالكحل، والقرط، والخاتم، قيل: هذا لا يستقيم مع قوله: ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، فلو كان المقصود بالزينة ما ذكر لقال: (إلا ما أظهرن منها)، فالزينة المكتسبة هي التي تحتاج إلى إظهار بفعل المرأة، ولكنه قال: ﴿إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾، فدل على أن الزينة المنهي عنها بقوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ شاملة للزينة الأصلية، والزينة المكتسبة، ويدخل في الزينة المكتسبة الثياب والحلي ونحو ذلك، فيكون المستثنى هو ما ظهر من هذه الزينة من غير قصد منها.

ثانيا: ولأنه قد تقرر في العقول والفطر بأن الوجه أصل الزينة، كما ذكر القرطبي وهو بلا نزاع القاعدة الأساسية للفتنة بالمرأة، بل هو المورد والمصدر لشهوة الرجال؛ فتحريم إبدائه آكد من تحريم كل زينة تحدثها المرأة في بدنها.


الوجه السابع: أنه رضي الله عنه قال في الموضع الآخر من الآية: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ فهذه الزينة المنهي عنها تشمل بعمومها كل زينة، والوجه هو أعظم زينة للمرأة، فيكون دخوله في هذا النهي أولى من أي زينة أخرى، سواء كان زينة خلقية أو مكتسبة، وإنما استثنى الزينة التي تبدو بغير قصد منها في الآية السابقة، وهي قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ ففي الآية الأولى بين الزينة التي يعفى عنها، ثم بين لها في الآية الثانية من تبدى لهم الزينة، وعلى القول بأن المستثنى من الزينة في قوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ هو الوجه والكفان يلزم منه أمران:
الأول: أن يكون ذكر الزينة الثانية في قوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ تكرارا لا معنى له؛ لأننا إذا قلنا بأن الوجه والكفين يباح كشفهما، وتحرم الزينة المكتسبة في الوجه والكف، كالكحل، والقرط، والخاتم فما هي - إذا - الزينة المقصودة بالنهي عن إبدائها في الآية الثانية؟
فإن قيل: بأن المقصود بالزينة المذكورة هو الشعر، والحلي، والكحل، والقرط؛ لأن الآية الأولى استثنت الوجه والكفين.
قلنا: بأن قوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾ عموم لا مخصص له من الكتاب والسنة، فيشمل كل ما يصح أن يطلق عليه زينة، سواء كان زينة أصلية أو زينة مكتسبة، وعموم القرآن الكريم، والسنة المطهرة لا يجوز تخصيصه إلا بالقرآن الكريم، أو بما ثبت من السنة المطهرة، أو بإجماع سلف الأمة، وليس ثمة شيء من ذلك فيبقى على العموم.
الثاني: أن ذلك يقتضي بأن يجعل ما هو أقل فتنة وهو الزينة المكتسبة منهيا عنه، وأصل الزينة الباطنة وهي الوجه تكون مما يباح إظهارها. وهذا تناقض، من جهة أن الوجه هو أصل الزينة بلا نزاع في النقل ولا في العقل، والله جلت قدرته حرم على المرأة إبداء شيء من زينتها إلا لمن استثنى بقوله: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}الآية، فكيف يسوغ تحريم الفرع، وهو الزينة المكتسبة، وإباحة أصل الزينة في المرأة، وهو الوجه الذي هو الزينة الأساسية؟ هذا تناقض، وحاشا كلام الله أن يقع فيه ذلك.
وجه الاستدلال الثاني من الآية: قالوا بأنه قد حصل الإجماع على وجوب ستر العورة على كل مصل في صلاته، وأن للمرأة أن تكشف وجهها وكفيها في صلاتها، وأن عليها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها، فإذ كان ذلك من جميعهم إجماعا، كان معلوما بذلك أن لها أن تبدي من بدنها ما لم يكن عورة، كما ذلك للرجال؛ لأن ما لم يكن عورة فغير حرام إظهاره، وإذا كان لها إظهار ذلك كان معلوما أنه مما استثناه الله تعالى ذكره بقوله: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا﴾ ؛ لأن كل ذلك ظاهر منها، ونوقش من وجوه:
الوجه الأول: بأنه قياس مع الفارق، فليس نزاعنا في كون الوجه عورة في الصلاة، وإنما النزاع هو في كون الوجه عورة من جهة النظر أم لا، وقد دلت أدلة الكتاب والسنة، على أن جميع بدن المرأة عورة خارج الصلاة من غير استثناء، فلا يجوز القياس على حالها في الصلاة.
الوجه الثاني: بأننا قدمنا الأجوبة الدالة على أن ما ظهر منها هو ظاهر الثياب، وهو التفسير الذي تعضده الأدلة من الكتاب والسنة.